فصل: تفسير الآيات (1- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وكل تلك الخلايا فرادى ومجتمعة تعمل في نطاق ترسمه لها مجموعة معينة من الوحدات كامنة فيها. هي وحدات الوراثة، الحافظة لسجل النوع ولخصائص الأجداد. فخلية العين وهي تنقسم وتتكاثر لكي تكوّن العين، تحاول أن تحافظ في أثناء العمل على شكل معين للعين وخصائص محددة تجعلها عين إنسان لا عين أي حيوان آخر. وإنسان لأجداده شكل معين للعين وخصائص معينة.. وأقل انحراف في تصميم هذه العين من ناحية الشكل أو ناحية الخصائص يحيد بها عن الخط المرسوم. فمن ذا الذي أودعها هذه القدرة؟ وعلمها ذلك التعليم؟ وهي الخلية الساذجة التي لا عقل لها ولا إدراك، ولا إرادة لها ولا قوة؟ إنه الله. علمها ما يعجز الإنسان كله عن تصميمه لو وكل إليه تصميم عين أو جزء من عين. بينما خلية واحدة منه أو عدة خلايا ساذجة، تقوم بهذا العمل العظيم!
ووراء هذا اللمحة الخاطفة عن صور الرحلة الطويلة العجيبة بين الماء الدافق والإنسان الناطق، حشود لا تحصى من العجائب والغرائب، في خصائص الأجهزة والأعضاء، لا نملك تقصيها في هذه الظلال.
تشهد كلها بالتقدير والتدبير. وتشي باليد الحافظة الهادية المعينة. وتؤكد الحقيقة الأولى التي أقسم عليها بالسماء والطارق. كما تمهد للحقيقة التالية. حقيقة النشأة الآخرة التي لا يصدقها المشركون، المخاطبون أول مرة بهذه السورة..
{إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر}..
إنه الله الذي أنشأه ورعاه إنه لقادر على رجعة إلى الحياة بعد الموت، وإلى التجدد بعد البلى، تشهد النشأة الأولى بقدرته، كما تشهد بتقديره وتدبيره. فهذه النشأة البالغة الدقة والحكمة تذهب كلها عبثاً إذا لم تكن هناك رجعة لتختبر السرائر وتجزى جزاءها العادل: {يوم تبلى السرائر}.. السرائر المكنونة، المطوية على الأسرار المحجوبة.. يوم تبلى وتختبر، وتتكشف وتظهر كما ينفذ الطارق من خلال الظلام الساتر؛ وكما ينفذ الحافظ إلى النفس الملفعة بالسواتر! كذلك تبلى السرائر يوم يتجرد الإنسان من كل قوة ومن كل ناصر: {فما له من قوة ولا ناصر}.. ما له من قوة في ذاته، وما له من ناصر خارج ذاته.. والتكشف من كل ستر، مع التجرد من كل قوة، يضاعف شدة الموقف؛ ويلمس الحس لمسة عميقة التأثير. وهو ينتقل من الكون والنفس، إلى نشأة الإنسان ورحلته العجيبة، إلى نهاية المطاف هناك، حيث يتكشف ستره ويكشف سره، ويتجرد من القوة والنصير..
ولعل طائفاً من شك، أو بقية من ريب، تكون باقية في النفس، في أن هذا لابد كائن.. فمن ثم يجزم جزماً بأن هذا القول هو القول الفصل، ويربط بين هذا القول وبين مشاهد الكون، كما صنع في مطلع السورة:
{والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع إنه لقول فصل وما هو بالهزل}..
والرجع المطر ترجع به السماء مرة بعد مرة، والصدع النبت يشق الأرض وينبثق.. وهما يمثلان مشهداً للحياة في صورة من صورها. حياة النبات ونشأته الأولى: ماء يتدفق من السماء، ونبت ينبثق من الأرض.. أشبه شيء بالماء الدافق من الصلب والترائب؛ والجنين المنبثق من ظلمات الرحم. الحياة هي الحياة. والمشهد هو المشهد. والحركة هي الحركة.. نظام ثابت، وصنعة مُعلمة، تدل على الصانع. الذي لا يشبهه أحد لا في حقيقة الصنعة ولا في شكلها الظاهر!
وهو مشهد قريب الشبه بالطارق. النجم الثاقب. وهو يشق الحجب والستائر. كما أنه قريب الشبه بابتلاء السرائر وكشف السواتر.. صنعة واحدة تشير إلى الصانع!
يقسم الله بهذين الكائنين وهذين الحدثين: السماء ذات الرجع. والأرض ذات الصدع.. حيث يوقع مشهدهما وإيحاؤهما، كما يوحي جرس التعبير ذاته، بالشدة والنفاذ والجزم.. يقسم بأن هذا القول الذي يقرر الرجعة والابتلاء أو بأن هذا القرآن عامة هو القول الفصل الذي لا يتلبس به الهزل. القول الفصل الذي ينهي كل قول وكل جدل وكل شك وكل ريب.
القول الذي ليس بعده قول. تشهد بهذا السماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع!
وفي ظل هذا القول الفصل بالرجعة والابتلاء يتجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ومن معه من القلة المؤمنة في مكة يعانون من كيد المشركين ومؤامراتهم على الدعوة والمؤمنين بها وقد كانوا في هم مقعد مقيم للكيد لها والتدبير ضدها وأخذ الطرق عليها وابتكار الوسائل في حربها يتجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتثبيت والتطمين وبالتهوين من أمر الكيد والكائدين. وأنه إلى حين. وأن المعركة بيده هو سبحانه وقيادته. فليصبر الرسول وليطمئن هو والمؤمنون:
{إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فمهل الكافرين أمهلهم رويداً}..
إنهم هؤلاء الذين خلقوا من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب بلا حول ولا قوة ولا قدرة ولا إرادة، ولا معرفة ولا هداية. والذين تولتهم يد القدرة في رحلتهم الطويلة. والذين هم صائرون إلى رجعة تبلى فيها السرائر، حيث لا قوة لهم ولا ناصر.. إنهم هؤلاء يكيدون كيداً..
وأنا أنا المنشئ.. الهادي. الحافظ. الموجه. المعيد. المبتلي. القادر. القاهر. خالق السماء والطارق. وخالق الماء الدافق، والإنسان الناطق، وخالق السماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع.. أنا الله.. أكيد كيداً..
فهذا كيد. وهذا كيد. وهذه هي المعركة.. ذات طرف واحد في الحقيقة.. وإن صورت ذات طرفين لمجرد السخرية والهزاء!
{فمهل الكافرين}.. {أمهلهم رويداً}.. لا تعجل. ولا تستبطئ نهاية المعركة. وقد رأيت طبيعتها وحقيقتها.. فإنما الحكمة وراء الإمهال. الإمهال قليلاً.. وهو قليل حتى لو استغرق عمر الحياة الدنيا. فما هو عمر الحياة الدنيا إلى جانب تلك الآباد المجهولة المدى؟
ونلحظ في التعبير الإيناس الإلهي للرسول: {فمهل الكافرين أمهلهم رويداً}.. كأنه هو صلى الله عليه وسلم صاحب الأمر، وصاحب الإذن، وكأنه هو الذي يأذن بإمهالهم. أو يوافق على إمهالهم. وليس من هذا كله شيء للرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو الإيناس والود في هذا الموضع الذي تنسم نسائم الرحمة على قلبه صلى الله عليه وسلم الإيناس الذي يخلط بين رغبة نفسه وإرادة ربه. ويشركه في الأمر كأن له فيه شيئاً. ويرفع الفوارق والحواجز بينه وبين الساحة الإلهية التي يقضي فيها الأمر ويبرم.. وكأنما يقول له ربه: إنك مأذون فيهم. ولكن أمهلهم. أمهلهم رويداً.. فهو الود العطوف والإيناس اللطيف. يمسح على الكرب والشدة والعناء والكيد، فتنمحي كلها وتذوب.. ويبقى العطف الودود..

.سورة الأعلى:

.تفسير الآيات (1- 19):

{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)}
في رواية للإمام أحمد عن الإمام علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب هذه السورة: {سبح اسم ربك الأعلى}.. وفي صحيح مسلم أنه كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، و{هل أتاك حديث الغاشية}. وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما..
وحق لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحب هذه السورة وهي تحيل له الكون كله معبداً تتجاوب أرجاؤه بتسبيح ربه الأعلى وتمجيده، ومعرضاً يحفل بموحيات التسبيح والتحميد: {سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى}.. وإيقاع السورة الرخي المديد يلقي ظلال التسبيح ذي الصدى البعيد..
وحق له صلى الله عليه وسلم أن يحبها، وهي تحمل له من البشريات أمراً عظيماً. وربه يقول له، وهو يكلفه التبليغ والتذكير: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ونيسرك لليسرى فذكر إن نفعت الذكرى}.. وفيها يتكفل له ربه بحفظ قلبه لهذا القرآن، ورفع هذه الكلفة من عاتقه. ويعده أن ييسره لليسرى في كل أموره وأمور هذه الدعوة. وهو أمر عظيم جداً.
وحق له صلى الله عليه وسلم أن يحبها، وهي تتضمن الثابت من قواعد التصور الإيماني: من توحيد الرب الخالق وإثبات الوحي الإلهي، وتقرير الجزاء في الآخرة. وهي مقومات العقيدة الأولى. ثم تصل هذه العقيدة بأصولها البعيدة، وجذورها الضاربة في شعاب الزمان: {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى}.. فوق ما تصوره من طبيعة هذه العقيدة، وطبيعة الرسول الذي يبلغها والأمة التي تحملها.. طبيعة اليسر والسماحة..
وكل واحدة من هذه تحتها موحيات شتى؛ ووراءها مجالات بعيدة المدى..
{سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثآء أحوى}..
إن هذا الافتتاح، بهذا المطلع الرخي المديد، ليطلق في الجو ابتداء أصداء التسبيح، إلى جانب معنى التسبيح. وإن هذه الصفات التي تلي الأمر بالتسبيح: {الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى}.. لتحيل الوجود كله معبداً يتجاوب جنباته بتلك الأصداء؛ ومعرضاً تتجلى فيه آثار الصانع المبدع: {الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى}..
والتسبيح هو التمجيد والتنزيه واستحضار معاني الصفات الحسنى لله، والحياة بين إشعاعاتها وفيوضاتها وإشراقاتها ومذاقاتها الوجدانية بالقلب والشعور. وليست هي مجرد ترديد لفظ: سبحان الله!.. و{سبح اسم ربك الأعلى}.. تطلق في الوجدان معنى وحالة يصعب تحديدها باللفظ، ولكنها تتذوق بالوجدان. وتوحي بالحياة مع الإشراقات المنبثقة من استحضار معاني الصفات.
والصفة الأولى القريبة في هذا النص هي صفة الرب. وصفة الأعلى.. والرب: المربي والراعي، وظلال هذه الصفة الحانية مما يتناسق مع جو السورة وبشرياتها وإيقاعاتها الرخية.. وصفة الأعلى تطلق التطلع إلى الآفاق التي لا تتناهى؛ وتطلق الروح لتسبح وتسبح إلى غير مدى.. وتتناسق مع التمجيد والتنزيه، وهو في صميمه الشعور بصفة الأعلى..
والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء. وهذا الأمر صادر إليه من ربه. بهذه الصيغة: {سبح اسم ربك الأعلى}.. وفيه من التلطف والإيناس ما يجل عن التعبير. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذا الأمر، ثم يعقب عليه بالاستجابة المباشرة، قبل أن يمضي في آيات السورة، يقول: {سبحان ربي الأعلى}.. فهو خطاب ورده. وأمر وطاعته. وإيناس ومجاوبته.. إنه في حضرة ربه، يتلقى مباشرة ويستجيب. في أنس وفي اتصال قريب. وحينما نزلت هذه الآية قال: «اجعلوها في سجودكم» وحينما نزلت قبلها: {فسبح باسم ربك العظيم} قال: «اجعلوها في ركوعكم». فهذا التسبيح في الركوع والسجود كلمة حية ألحقت بالصلاة وهي دافئة بالحياة. لتكون استجابه مباشرة لأمر مباشر. أو بتعبير أدق.. لإذن مباشر.. فإذن الله لعباده بأن يحمدوه ويسبحوه إحدى نعمه عليهم وأفضاله. إنه إذن بالاتصال به سبحانه في صورة مقربة إلى مدارك البشر المحدودة. صورة تفضل الله عليهم بها ليعرفهم ذاته. في صفاته. في الحدود التي يملكون أن يتطلعوا إليها. وكل إذن للعباد بالاتصال بالله في أي صورة من صور الاتصال، هو مكرمة له وفضل على العباد.
{سبح اسم ربك الأعلى}.. {الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى}..
الذي خلق كل شيء فسواه، فأكمل صنعته، وبلغ به غاية الكمال الذي يناسبه.. والذي قدر لكل مخلوق وظيفته وغايته فهداه إلى ما خلقه لأجله، وألهمه غاية وجوده؛ وقدر له ما يصلحه مدة بقائه، وهداه إليه أيضاً..
وهذه الحقيقة الكبرى ماثلة في كل شيء في هذا الوجود؛ يشهد بها كل شيء في رحاب الوجود. من الكبير إلى الصغير. ومن الجليل إلى الحقير.. كل شيء مسوى في صنعته، كامل في خلقته. معد لأداء وظيفته. مقدر له غاية وجوده، وهو ميسر لتحقيق هذه الغاية من أيسر طريق.. وجميع الأشياء مجتمعة كاملة التناسق، ميسرة لكي تؤدي في تجمعها دورها الجماعي؛ مثلما هي ميسرة فرادى لكي تؤدي دورها الفردي.
الذرة بمفردها كاملة التناسق بين كهاربها وبروتوناتها وإلكتروناتها، شأنها شأن المجموعة الشمسية في تناسق شمسها وكواكبها وتوابعها.. وهي تعرف طريقها وتؤدي مثلها وظيفتها..
والخلية الحية المفردة كاملة الخلقة والاستعداد لأداء وظائفها كلها، شأنها شأن أرقى الخلائق الحية المركبة المعقدة.
وبين الذرة المفردة والمجموعة الشمسية؛ كما بين الخلية الواحدة وأرقى الكائنات الحية، درجات من التنظيمات والتركيبات كلها في مثل هذا الكمال الخلقي، وفي مثل هذا التناسق الجماعي، وفي مثل هذا التدبير والتقدير الذي يحكمها ويصرفها.
والكون كله هو الشاهد الحاضر على هذه الحقيقة العميقة..
هذه الحقيقة يدركها القلب البشري جملة حين يتلقى إيقاعات هذا الوجود؛ وحين يتدبر الأشياء في رحابه بحس مفتوح. وهذا الإدراك الإلهامي لا يستعصي على أي إنسان في أية بيئة، وعلى أية درجة من درجات العلم الكسبي، متى تفتحت منافذ القلب، وتيقظت أوتاره لتلقي إيقاعات الوجود.
والملاحظة بعد ذلك والعلم الكسبي يوضحان بالأمثلة الفردية ما يدركه الإلهام بالنظرة الأولى.. وهناك من رصيد الملاحظة والدراسة ما يشير إلى طرف من تلك الحقيقة الشاملة لكل ما في الوجود.
يقول العالم (ا. كريسي موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيورك في كتابه: الإنسان لا يقوم وحده.
إن الطيور لها غريزة العودة إلى الموطن. فعصفور الهزاز الذي عشش ببابك يهاجر جنوباً في الخريف. ولكنه يعود إلى عشه في الربيع التالي. وفي شهر سبتمبر تطير أسراب من معظم طيورنا إلى الجنوب. وقد تقطع في الغالب نحو ألف ميل فوق أرض البحار. ولكنها لا تضل طريقها. وحمام الزاجل إذا تحير من جراء أصوات جديدة عليه في رحلة طويلة داخل قفص، يحوم برهة ثم يقصد قدماً إلى موطنه دون أن يضل.. والنحلة تجد خليتها مهما طمست الريح، في هبوبها على الأعشاب والأشجار، كل دليل يرى. وحاسة العودة إلى الوطن هذه هي ضعيفة في الإنسان، ولكنه يكمل عتاده القليل منها بأدوات الملاحة. ونحن في حاجة إلى هذه الغريزة، وعقولنا تسد هذه الحاجة. ولابد أن للحشرات الدقيقة عيوناً ميكروسكوبية (مكبرة) لا ندري مبلغها من الإحكام؛ وأن للصقور بصراً تلسكوبياً (مكبراً مقرباً). وهنا أيضاً يتفوق الإنسان بأدواته الميكانيكية فهو بتلسكوبه يبصر سديماً بلغ من الضعف أنه يحتاج إلى مضاعفة قوة إبصاره مليوني مرة ليراه. وهو بمكروسكوبه الكهربائي يستطيع أن يرى بكتريا كانت غير مرئية (بل كذلك الحشرات الصغيرة التي تعضها!).